تعريف فعل الخير - أبو العتاهية
أواخرُ
سورةِ الحج ِ قولُ اللهِ جلَّ وعزَّ : يا أيُّها الَّذين أمنوا اركعوا
واسجدوا واعبُدوا ربَّكم وافعلوا الخيرَ لعلكم تُفلحون , وجاهدوا في اللهِ
حقَ جهادِهِ , هوَ اجتباكم وما جعلَ عليكم في الدِّين ِ مِن حرج , مِلة َ
أبيكم إبراهيمَ , هوَ سمَّاكم المسلمينَ مِن قبلُ وفي هذا , ليكونَ
الرسولُ شهيداً عليكم , وتكونوا شهداءَ على النَّاس , فأقيموا الصلاة َ
وأتوا الزكاة َ واعتصموا باللهِ هوَ مولاكم , فنِعمَ المولى ونِعمَ
النَّصير .
لأبي العتاهيةِ شاعر ِ
الزُهديِّاتِ في الإسلام ِ حِكمة ٌ , جرت على ألسنةِ النَّاس ِ مسيرَ
الأمثال ِ , أودعَ فيها خُلاصة َ نصائحهِ , وكأنَّهُ قد استمدَّها مِن
الآيةِ الكريمةِ , وخاطبَ بها ولدَهُ مؤدِباً وناصحاً , وصدَّرها بكلمةِ ,
يا بُنيَّ , تعبيراً عن محبتِهِ لهُ , وإخلاصِهِ في إرشادِه , وتمَني
الخير ِ له : يا بُنيَّ , اعمل الخير , فإن لم تستطع فعلَ الخير , فانو ِ
الخير , فإنك لا تزالُ بخير ٍ ما نويتَ الخير .
وهوَ
مبدأ إسلاميٌ إنساني , تُحِسُ النفسُ المطمئنة ُ بنُبلِهِ وعظمتِه ,
وأثرِهِ الصالح ِ في حياةِ الفردِ والمجتمع . وما أجملَ هذهِ الحالَ في
الإنسان الموفق , إذ تراه يتقلَّبُ بينَ حالين كريمين , نبيلين شريفين :
عملُ الخير , فإن عجَزَ فأمامَهُ المجالُ الذي لا يُعجِزُه , نية ُ فعل ِ
الخير والعزمُ على ذلك , عزمَ إصرار ٍ وتأكيد , فإن كان كذلك , فالجزاءُ
مِن جنس العمل , يتقلَّبُ بنعمةِ اللهِ عزَّ وجلَّ , في سُرر الخير , مما
تتوقُ إليهِ نفسُه , ويميلُ إليهِ فؤادُه , ويتمنَّاهُ قلبُهُ عاجلا ً
وآجلا ً , على حدِ قول ِ الحكيم ِ الشاعر : لستُ أدري ولا المنَّجمُ يدري
ما يريدُ القضاءُ بالإنسان ِ غيرَ أني أقولُ قولَ مُحِق ٍ وأرى الغيبَ
فيهِ مِثلَ العَيان ِ إنَّ مَن عاملَ النَّاسَ بخير ٍ قابلتْهُ بخير ٍ
صروفُ الزمان ِ والمعنى يتَّضحُ بالصورةِ السلبيةِ , التي ذكرها سيَّدُنا
محمَّدٌ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بقولِه : / مَن لم يجاهد , ولم يحدِّث
نفسَهُ بالجهاد , ماتِ على شُعبةٍ مِن النِفاق / . فالإنسانُ الموفَّقُ
الذي أرادَ اللهَ والدارَ الآخرة , في جهادٍ مستمر ٍ , إن واتتهُ الفرصة ُ
كان في الطليعة فداءاً وإقداماً , وتفانياً في سبيل الله , وإن لم تُسعفهُ
الفرصة ُ , فهوَ يقظ ٌ متربصٌ , منتظرٌ ساعة َ الجهاد , كما قال الأول :
إذا همَّ ألقى بينَ عينِهِ عَزمَهُ وأعرضَ عن ذِكر العواقبِ جانبا وكما
قال الآخر : وقولي كلما خشعت وجاشت مِن الأبطال ويحك لا تُراعي فإنك لو
سألتِ حياة َ يوم ٍ سوى الأجل ِ الذي لكِ لم تُطاعي والعاجزُ الأشلُ في
قول الرسول ِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ , هو البعيدُ من هذا الشرف , فإن
ماتَ والعيَاذُ باللهِ , ماتَ على شعبةٍ من النِفاق .
ولو
أردنا أن نحددَ معنىً لكلمةِ الخير , لآدنا الجمعُ وثقُلَ الحصرُ وأعجَزنا
البيان , فكلُ نافع ٍ للإنسانيةِ في أمر دينِها ودنياها , مما يُرضي اللهَ
عزَّ وجلَّ , فهوَ مِن شُعبِ الخير ومعانيه , في المعتقدِ والنيةِ والفعل
والقول , إحجاماً أو إقداماً , منعاً أو عطاءً , صلة ً أو انقطاعاً .
وأيُما امرئ , أوصَلَ ذلك أو سعى إليه , أو عمِلَ للانتفاع بهِ , فهو مِن
الصالحين البررة , الَّذينَ عليهم أن يشكُروا اللهَ على أن هداهم للإيمان
, ثمَ وفَّقهم لعمل الخير والبر والمعروف . قال تعالى في الحديثِ القدسي :
{ إنَّ مِن عبادي مَن جعلتُه مِفتاحاً للخير ويسَّرتُ الخيرَ على يديه ,
وإنَّ مِن عبادي مَن جعلتُه مِفتاحاً للشر ويسَّرتُ الشرَ على يديه ,
فطوبى لمَن جعلتُه مفتاحاً للخير مِغلاقاً للشر , وويلٌ لمَن جعلتُه
مِفتاحاً للشر مِغلاقاً للخير } . وقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ
وسلَّم : / إنَّ اللهَ قسَمَ بينكم أخلاقَكم , كما قسَمَ بينَكم أرزاقكم ,
وإنَّ اللهَ يعطي الدنيا مَن يُحبُ ومَن لا يُحب , فمَن أعطاه الدينَ فقد
أحبَه , والَّذي نفسي بيدِه , لا يُسلِمُ عبدٌ حتى يُسلِمَ قلبُه ولِسانُه
, ولا يؤمنُ حتى يأمَنَ جارُهُ بوائقه , ولا يكتسِبُ مالا ً مِن حرام ٍ
فيُنفِقُ منهُ فيُباركُ له فيه , ولا يتركُهُ وراءَ ظهره إلاَّ كان زادَه
إلى النَّار , إنَّ اللهَ تعالى لا يمحو السيئ بالسيئ , ولكن يمحو السيئ
بالحسن / .
في كتابِ العقدُ الفريد : كان
خالدُ بنُ عبدِ اللهِ القسري ِ , يقولُ على المِنبَر : أيها النَّاس ,
عليكم بالمعروف , فإنَّ اللهَ لا يُعدِمُ فاعِلَهُ جوازيَه , وما ضعُفَ
النَّاسُ على أدائه , قوَّى اللهُ على جزائه . أخذَه مِن قول الحُطيئةِ :
مَن يفعل ِ الخيرَ لا يَعدَم جوازيَهُ لا يذهبُ العُرفُ بينَ اللهِ
والنَّاس قال تعالى : ( فاقرؤوا ما تيسَّرَ منه , وأقيموا الصَّلاة َ
وأتوا الزَّكاة َ وأقرِضوا اللهَ قرضاً حسناً , وما تُقدِموا لأنفسِكم مِن
خير ٍ تجدوهُ عندَ اللهِ هوَ خيراً وأعظمَ أجراً , واستغفِروا الله , إنَّ
اللهَ غفورٌ رحيم ) .
وبعد , رحِمَ اللهُ
القائل : ارحَم أخيَّ عبادَ اللهِ كلَهم وانظر إليهم بعين اللطفِ والشفقة
. وقِّر كبيرَهم وارحم صغيرَهم وراع في كل خلق ٍ وجهَ مَن خلقه